خسرنا التاريخ ولم نربح السياسة

بعدسة الفنان نادر البزاز
بعدسة الفنان نادر البزاز

وسام السبع

حدث أن صنّف عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ) كتاباً من كتبه “وبثه في الناس، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: ياهذا إن المصنف كالمصور، وإني قد صورت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما، أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصلمتهما، صلم الله أذنيك، وكان لها يدان فقطعتهما، قطع الله يديك”.

ذكرتني قصة الجاحظ هذه بمحاولات بعض الهواة نبش التاريخ والتفتيش عن ما يوافق هواه السياسي وغرضه المذهبي، فيخسر التاريخ ولا يربح السياسة في غالب الاحيان.

الملاحظ أن التاريخ يأتي اليوم في المقدمة من اهتمامات البحرينين، ويحتل أولوية بالغة عند الطبقة “القارئة” بل ويتعداه الى عامة الجمهور العريض الذي وجد نفسه فجأة مسكوناً بسؤال الهوية وتحدّياتها، هذا الجمهور الذي يشعر في أعماقه بأن تاريخه بعد أن كان متناثراً على “هوامش” دفتر التاريخ الرسمي، باتت حتى هذه الهوامش أيضا عرضة للتزوير والانكار والتشكيك في بديهيات إسلامها وعروبتها، فضلاً عن مفاخرها وأمجادها الأخرى.

ولأن التاريخ الرسمي مرتبط دائماً بمشروع السلطة السياسي، فإن تاريخه يمثل تاريخ “سلطة” في مقابل “تاريخ الناس” .. البشر الذين كانوا يسكنون هذا المدى الجغرافي الضئيل. إذاً، تاريخ “السلطة” في مقابل “تاريخ الناس”، وتاريخ “المحنة” في مقابل تاريخ “الفتح”، وتاريخ “السُنة” في مقابل تاريخ “الشيعة” وهكذا دائماً هناك إرادات تتصارع فيما بينها في كتابة التاريخ لتروي القصة من زاويتها.

التاريخ وإعادة كتابته مسئولية علمية وليست صرعة سياسية، التاريخ حقل علمي وليس “أماني طيبة” و”طموحات وحدودية” هدفها رفع حالة “الاحتقان المذهبي” التي يرزح تحت وطأتها ويترنح بسببها مجتمعنا اليوم، وفي المقابل، فان التاريخ ليس مشروع إدانة لاحد، ولا منشور سياسي للتعبأة الثورية.

وأعتقد جازماً أن كتابة تاريخ “نظيف” و”توافقي” بين المذاهب والأديان هو بالضرورة “عملية انتقاء” يتخذ في بعض الأحيان طابع “التزوير” للحقيقة و”التلاعب” بذاكرة الماضي، و إن حسنت النوايا وطابت المقاصد؛ فالغاية لاتبرر الوسيلة، وإذا كنا نعيب على البعض كتابته تاريخاً “مخربطا”  فإن كتابة تاريخ “علاقات عامة” زبدٌ لا ينفع الناس.

إن وضع كل الحقائق والوثائق تحت مجهر الفحص والنقد ضرورة علمية وأمانه يقتضيها الوفاء لهذا الماضي، ويبقى للقاريء، أي قاريء كان، حق الاطلاع ونقد تجارب الماضي بكل محاسنه وسؤاته، أمجاده ومخازيه.

ليست وظيفة علم التاريخ بالمناسبة تقديم رؤى سياسية وامتصاص حالة الغليان المذهبية التي يعيشها أي مجتمع، إنما وظيفة التاريخ هي الكشف عن حقائق الماضي بروح علمية محايدة قدر الامكان، وعلى رجال الدين وأهل الرأي والزعماء السياسيين بلورة رؤى إجتماعية تحثّ على الوئام، وتسهدف تعزيز الروابط وتؤكد على المشتركات إنطلاقاً من الدين والمصالح المشتركة والاستعانة في التاريخ بما يمكن أن يمثل شاهداً حيًّا على إمكانية التعايش المريح بين أتباع المذاهاب والأديان من أهل الوطن.

شخصيّاً لا أرى أي بأس في أن يتخصص الباحث في حصر إهتمامه بدراسة تراث وتاريخ جماعة مذهبية ورصد نشاطها الديني والفكري والأدبي والسياسي، فالتخصص مطلوب وهو سرّ تقدم الدراسات التاريخية في مراكز البحث العلمي في الغرب، فمن المعروف أن تضييق دائرة البحث يساعد على دقة الاستتنتاج وعمق المعالجة، ولكن يجب أن يُبين الباحث للقاريء أنه ينطلق من هذه الزاوية في معالجة أحداث التاريخ، والمهم في كل ذلك هو الالتزام بضوابط البحث العلمي، وضرورة توفر الشروط الواجب توافرها فيمن يتصدى لهذه المهمة التي تنطوي على خطورة بالغة وصعوبة في ذات الوقت.

هناك تجربة علمية رائدة اكتسبت احترام النخب العلمية والمجتمع الاكاديمي في العالم يمكن  الاسترشاد بها في الاطار.

وهي تجربة معهد الدراسات الاسماعلية الذي يتبع فرقة الاسماعيلية الآغاخانية، هذا المعهد الذي تأسس في لندن في العام 1977، وغايته الترويج للدرسات والعلوم التي تتناول الاسلام في السياقين التاريخي والمعاصر وتطويرها، وتحقيق فهم أفضل لعلاقتها بالاديان الاخرى.

ويجري تحقيق أهداف المعهد من خلال برامج ونشاطات ملموسة تقوم بتنظيمها وتطبيقها أقسام المعهد المتنوعة. كما يتعاون المعهد مع معاهد علمية أخرى داخل وخارج بريطانيا. وتصدر عن المركز سلسلة عدة على النحو التالي :

  1. أبحاث ظرفية أو مقالات تتناول مواضيع واسعة على صعيد العلاقات بين الدين والمجتمع في السياقين التاريخي والمعاصر ولا سيما ما يتصل منها بالاسلام.
  2. رسائل قصيرة تستكشف جوانب محددة من الدين الاسلامي وثقافته او مساهمات شخصيات أوكتاب مسلمين.
  3. تحقيق أو ترجمة نصوص ثانوية أو أولية هامة.
  4. ترجمة نصوص شعرية أو أدبية تصور الموروث الغني من الخطاب الديني والروحانية والرمزية في التاريخ الإسلامي.
  5. كتب في التاريخ والفكر الاسماعيليين وعلاقة الاسماعيليين بالتقاليد والجماعات والمدارس الفكرية الاخرى في الاسلام.
  6. وقائع المؤتمرات والندوات التي يرعاها المعهد.
  7. أعمال تراجمية وفهرسية (توثيق المخطوطات) والنصوص المطبوعة والمواد المرجعية الاخرى.

معهد الدراسات الاسماعيلية الذي تنشر إصداراته تباعاً دار الساقي في لندن ويترجمها في الغالب الباحث القدير سيف الدين قصير، هذا المعهد يسعى الى ترويج البحث ضمن التراث الاسلامي في المجالات التي لم تلق من الباحثين سوى اهتمام قليل نسبياً.

بالامكان “بحرنة التجربة” هذه ومخاطبة العالم بلغة يفهما وتحترمها مراكز البحث العلمي في العالم.

أرجوا أن لا نتعامل مع التاريخ وأحداثه باسلوب “الوجبات السريعة” ، فنفقأ عينه، ونصلم أذنيه كما فعل صاحبنا الأعرابي مع كتاب عمرو بن بحر الجاحظ.

أضف تعليق

أنشئ موقعاً أو مدونة مجانية على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑