مسئولية الاستخدام الرشيد لـ”مكبرات الصوت”  للأغراض الدينية    

  • وسام السبع

قبل بضع سنوات تداول بحرينيون على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعية مقطع فيديو للخطيب الحسيني الشيخ زمان الحسناوي يتحدث فيه بكثير من الاعجاب والدهشة عن العدد الملفت للمآتم الحسينية في البحرين، حيث أحيى فيها عددًا من المجالس الحسينية وقرأ في مآتمهما. أبدى هذا الخطيب العراقي الشاب انبهاره بمستوى الإحياء الجماهيري للشعائر في موسم عاشوراء في هذه المملكة الصغيرة في مساحتها، الكبيرة والغنية برصيدها التاريخي والديني. آنذاك شعر بالفخر أغلب من سمع الشيخ الحسناوي وهو يشيد بتدين أهل البحرين وصدق عاطفتهم الجياشة وولائهم العميق لأهل البيت (ع)، والتي تدفعهم إلى التمسك بشعائر الإحياء بكل هذا الزخم والتفاني الذي لا يضارعهم فيه إلا العراقيون، الشعب الذي له مع الأحزان والنغمة الشجية علاقة أزلية. 

حديث الشيخ الحسناوي لم يكن جديدًا، فهو حديثٌ ردّده كل من زار البحرين من أقطار العالم الإسلامي خلال المئة سنة الماضية، وهو ما يدلل على ما تتمتع به مملكة البحرين من تسامح وحرية دينية مكفولة أمام الجميع، غير أن ما تجدر الإشارة إليه، أن هذه المكتسبات التي ننعم بها في بلدنا لم تأتِ جزافًا، بل هي ثمرة لمساعٍ وجهود خيّرة اشترك فيها لعقود طويلة الأهالي والأعيان والوجهاء وتلقتها القيادة السياسية الرشيدة وبيت الحكم بالقبول الحسن والاحترام العميق للخصوصية المذهبية التي كانت ولاتزال محل فخرنا واعتزازنا الوطني، فهي تجسّد بجلاء حالة التلاحم العميق بين شعب البحرين وقيادته التي حرصت على أن تكون السبّاقة في دعم وتثبيت ركائز العمل الديني في البلاد وصون الشعائر الدينية من عبث العابثين. 

في الرواية عن محمد بن عرفة قال: قال أبو الحسن الرضا (ع): “يا ابن عرفة! إن النعم كالإبل المعتلقة في عطنها على القوم ما أحسنوا جوارها، فإذا أساؤوا معاملتها وإبالتها نفرت عنهم”. والإبالة الحذق بمصلحة الإبل. (وسائل الشيعة، للحر العاملي، “ط آل البيت”، ج ١٦ ص ٣٢٧). 

وفي نفس المصدر عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: أحسنوا جوار النعم، قلت، وما حُسن جوار النعم؟ قال: الشكر لمن أنعم بها وأداء حقوقها”. 

وإذا كنا نفخر في البحرين بمستوى الحريات المُصانة في ممارسة شعائرنا الدينية والمذهبية في ظل رعاية الدولة وتعاون أجهزتها التنفيذية في إنجاح مواسم الإحياء الكبير في عاشوراء من كل عام، فإن مسؤوليتنا اليوم إزاء الحفاظ على هذا المكتسب المهم يتضاعف في وقت باتت فيه الهوية الدينية لمجتمعاتنا مُهدّدة أمام هذا السيل العرم من التحديات التي تنهمر علينا من كل حدب وصوب مُبشرًا بالدعوات الإلحادية والمقولات التي تدعوا للتنفير من الدين والتسويق اللئيم والفج للسلوكيات الشاذة، ومحاولة العبث بعقول وسلوكيات الشباب والشابات. 

ومن أبرز الملفات وأشدها حساسية في موضوع إحياء المناسبات الدينية: “مكبرات الصوت”، والذي يعد من المواضيع المؤرقة والحرجة، وتسبّب الكثير من اللغط الاجتماعي بين من يبيح استخدام هذا الحق دون ضوابط، وبين من يرى ضرورة تقييده في أضيق الحدود مراعاةً للصالح العام وحفظاً لحقوق القاطنين في الأحياء القريبة من هذه المنشآت الدينية. 

ما حملني على إثارة هذا الموضوع، هو ما يفرضه عملي من اهتمام يكاد يكون يوميًا، ويحتّم التعامل معها بجدية كاملة ومعالجتها وفق الأطر القانونية والمصالح العليا للمجتمع، فعدد الملاحظات والشكاوى في هذا الشأن ملحوظ بشكل ملفت، وليس من الصعوبة إدراك بعض أسبابه ومحاولة وضع تفسيرات منطقية لتفاقم الظاهرة، والتي يمكن عزوها إلى جملة من العوامل أبزرها: نشوء المدن الحديثة والتغيرات الديمغرافية المصاحبة في تركيبتها المختلطة، وتزايد أهمية وسائل التواصل الاجتماعي في مقابل تراجع دور ووظيفة “مكبرات الصوت” بوصفها وسيلة تقليدية قديمة، إلى جانب تزايد قيمة المحافظة على البيئة من التلوث الضوضائي بسبب الاعتماد المتزايد على برامج البث المرئي في ميدان التعليم والعمل، وتعاظم الإحساس بأهمية حق الانسان في التنعم بحياة خاصة خالية من الضجيج وعدم خرق خصوصيته تحت أي مسوغ، إلى جانب تطور التشريعات والأنظمة التي تعزز وتصون هذا الحق.    

من هنا، أرى أن المسؤولية الملقاة اليوم على عاتق إدارات المآتم والحسينيات جسيمة وأكبر بكثير من المسؤولية التي حملها ذات يوم آباءهم وأجدادهم قبل عقود من السنين، فقد تغيرت الكثير من المفاهيم والسلوكيات والعادات والأعراف، وأصبح من اللازم إدراك الحد الفاصل والدقيق بين نطاق الحرية الشخصية أو حرية أي جماعة في ممارسة شعائرها الدينية من جهة، وبين تجاوز حق الآخرين من خلال الاستخدام غير الأمثل لمكبرات الصوت من جهة أخرى، والذي أرى أنه سلوكٌ لا ينسجم في جوهره مع نهج أهل البيت (ع) ولا يتلاءم مع ثقافتهم وإرشاداتهم لأتباعهم ومحبيهم.  

في الرواية عن سليمان بن مهران قال: دخلت على الإمام الصادق (ع) وعنده نفر من الشيعة فسمعته وهو يقول: “معاشر الشيعة كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شينًا، قولوا للناس حسنًا، واحفظوا ألسنتكم، وكُفّوها عن الفضول وقبيح القول”. (أمالي الصدوق، ص 240) 

وعن أبي أسامة، عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنه قال: “كونوا دُعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زينا ولا تكونوا شينًا”. (وسائل الشيعة، للحر العاملي، “ط آل البيت”، ج 1 ص 76). 

دواعي كثيرة تتطلب مراجعة هذا الموضوع والتعامل معه بحذر بالغ، أبرزها أن مسألة الحفاظ على سلامة البيئة من الضوضاء أيًا كان مصدره ونوعه يتعارض مع نمط الحياة المعاصرة وشرائط العيش المطمئن والخالي من المنغصات، والتي بتنا نعتمد فيها بصورة غير مسبوقة على العمل والدراسة من المنزل، والعديد منا بات يشارك في الاجتماعات والندوات ويتعلم ويدرس عبر وسائل البث المرئي، وكانت المآتم نفسها أسبق من غيرها من المؤسسة الرسمية والأهلية في بث برامجها الدينية عبر شبكات الانترنت، وبالتالي فإن التعسف في استخدام “مكبرات الصوت” تتضرر منه فئات اجتماعية واسعة من مختلف الأعمار والمهن، تؤثر الصمت في أغلب الأحيان، ولكنها تجأر بالشكوى عندما لا يعود بإمكانها السكوت على هذه التجاوزات.  

نقل أحد رؤساء المآتم في إحدى القرى الصغيرة أنهم في ما مضى كانوا يستخدمون مكبرات الصوت كوسيلة اتصال اجتماعية فعّالة وسريعة، بحيث أنهم كانوا أحيانًا يذيعون نداءات فيها نوع من الطرافة، ومن هذه النداءات: “الحاج فلان الفلاني.. ارجع البيت .. الأهل ينتظرونك حطّو الغدا”! 

قد يثير هذا النداء لمن يسمعه اليوم الدهشة، وقد يبدو عملاً فكاهيًا ساخرًا إلى حد بعيد، لكنه كان مقبولاً في وقته، لكن الحياة تتغير. في ذلك الوقت، قبل نحو عشرين عاماً أو أكثر، كانت “مكبرات الصوت” هي الوسيلة الوحيدة الاجتماعية الأكثر فاعلية في الوصول للناس، أما اليوم فإن أغلب المآتم لديها كوادر شبابية متطوعة تعمل في لجانها الإعلامية، طواقم مؤهلة وقادرة على التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي والوصول إلى الجمهور بأيسر الطرق وأسرعها، وبهذا تتضاءل أهمية “مكبرات الصوت” وتغيرت وظيفتها تغيرًا جذريًا، في وقت أصبح فيه اعتماد الناس على وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج البث الالكتروني والأجهزة الذكية رئيسيًا وكبيرًا. 

الوجه الآخر من الموضوع هو إن أغلب المناطق السكنية الحديثة في البلاد اليوم، خلافاً لما كان عليه الوضع الاجتماعي قبل نحو خمسين عامًا، هي مناطق تشهد تنوعًا سكانيًا مختلطًا يضم مزيجاً دينيًا ومذهبيًا وعرقيًا متنوعًا، وهو ما يفرض على القائمين على النشاط الديني التزام أقصى درجات الحيطة والمسؤولية في إحياء مناسباتها بالشكل الذي لا يضرُّ بحقوق الجيران ولا يتسبب في إزعاجهم وإقلاق راحتهم. 

كلمة أخيرة لابد منها، وهي إن أغلب المآتم في مملكة البحرين تضم كوادر شبابية تحظى بتعليم عالي ووعي وإدراك كامل للمسئولية وحس وطني كبير، وقد ساهمت خبرات هؤلاء الصفوة الأماثل بتاريخهم المشرف في مجال العمل الديني التطوعي في إثراء المجتمع بالبرامج الدينية والاجتماعية الهادفة. وإذا كان ثمة تجاوزات من فئة قليلة فإن ذلك لا يبيح ويسوغ إطلاق تعميمات قد تحمل بعض التجني على مؤسساتنا الدينية، أو التنكر لدورها الديني والوطني المهم.  

والله من وراء القصد. 

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑