وسام السبع
صحيفة الوسط البحرينية
نفتقد في الذكرى الرابعة لرحيل العلامة السيد محمد حسين فضل الله (ت 2010) والتي تصادف 4 يوليو/ تموز، رمزاً فكرياً وإنسانياً وفقيهاً ومجدداً سيعيش معنا طويلاً بما تركه من تأثير عميق في الواقع العربي والإسلامي لأكثر من خمسين عاماً، قضاها في رعاية الحالة الإسلامية مُنظّراً وموجهاً وفاعلاً. فالرجل كان يعرف ماذا وكيف يقول، وهي شروط لازمة تتضاعف قيمتها اليوم والمشهد العربي الكئيب يذهب بنا بعيداً إلى المجهول.
عاش «السيد» خمسة وسبعين عاماً مليئة بالمسئولية والإلتزام الإنساني والمحبة والفكر والشعر والفقه والهموم والمهام الكبرى. سافر كثيراً، وخطب كثيراً، وكتب الكثير، وعانى من سهام النقد والتسفيه، وقاسى من ضروب الاغتيال المعنوي من رفاق درب شاركوه قلق المسيرة ومسئوليتها. لم يتحمل البعض وجوده فسعوا للتخلص منه غير مرة، وكان أبشعها ذلك الانفجار الهائل في منطقة بئر العبد، حيث كان يقطن. الانفجار الذي اقتلع حياً بكامله في مشهد دموي مهول، عقب هذه التراجيديا البشعة قال بين أنصاره ومحبيه: «ليس المهم بطل الخط، فالبطل قد يموت، ولكن المهم خط البطل، فتمسكوا بالخط وإن مات البطل».
وُلد في النجف الأشرف في العام 1935، وتربى في حجر والده وأستاذه الأول السيّد عبد الرّؤوف فضل الله وأخذ عنه الموادّ الحوزويّة؛ من النّحو والبلاغة والمنطق، والأصول والفقه، وهو في سنِّ التاسعة، وذلك قبل أن ينخرط في دروس الكبار، كالسيّد أبي القاسم الخوئي (ت 1992)، والسيّد محسن الحكيم (ت 1970)، (وهو خال والدته)، والّذي كانت حركة مرجعيّته منفتحةً على الواقع الإسلاميّ العام، في الوقت الّذي كانت أغلب المرجعيّات تعيش في دائرة مغلقة خاصّة.
خاض في حياته أكثر من معترك وعراك، وكل معاركه معارك فكر وصراع رؤى، وهو القائل «أنا لا أحمل صخرة، بل أحمل رؤية، والرؤية لا تتدحرج، إنها تدخل إلى قلوب الناس». توغّل في المناطق الوعرة في الفكر الديني، وطرح الأسئلة بجرأة فيلسوف وقلب شاعر، وحفز على الاستفهام، وأطلق عبارته المعروفة «الحقيقة بنت الحوار»، وليس هناك سؤال تافه أو محرّم.
السيد فضل الله أحد أبرز فقهاء الفكر الإصلاحي المتأخرين، من الذين يمثلون الدرجة الأولى من المجددين بما تركوه من هزات ونظريات في عالم الفكر الاجتهادي والفقهي والكلامي، في إطار المدرسة الإمامية بين فقهاء كبار آخرين لا تتسع لذكرهم هذه المقالة، لكننا نشيد ونحيل إلى الدراسة اللطيفة التي وضعها الشيخ جعفر الشاخوري، وهو أحد تلامذة السيد فضل الله في كتابه «السيد فضل الله وحركية العقل الاجتهادي»، حيث يؤكد الشاخوري أن فضل الله اجترح منهجاً فقهياً واجتهادياً اتسم بالشمول والاتساع.
المرجعية الدينية التي صرّحت بملء فمها دون مواربة ولا مداهنة: «الفتنة السنية الشيعية حرام ثم حرام ثم حرام»، وكان دائماً على تواصل شبه يومي مع مرجعيات سنية في العالم العربي والإسلامي، وتمكّن من كسب الاحترام المسيحي بطرحه المتزن، وكان يتندر بين الحين والآخر بقصة من جاء إلى السيد محسن الأمين (ت 1951) كي يتحول من سنّي إلى شيعي، فقال له الأمين: «قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله» !.
وعندما حاول السيد موسى الصدر (غُيّب في 1978) تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، نصحه السيد فضل الله بأن لبنان يحتاج مجلساً إسلامياً أعلى من دون أن يكون شيعياً أو سنياً، وكان السيد الصدر متجاوباً مع الفكرة ولكن الظروف الواقعية التي كان يمر بها لبنان وقتها لم تكن تسمح بميلاد مشروع كهذا، ولما وُوجه برفض الأطراف الأخرى اضطر الصدر أن يشق طريقه بمشروعه النهضوي لترتيب البيت الشيعي. «حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع» (ص 18)، وهو الذي يؤمن بأن الطوائف نعمة والطائفية نقمة.
يوماً ما، كان هو المرشد الروحي لحركة المقاومة الإسلامية في لبنان، وكانت خطاباته النارية تلهب مخيلة الحركات الإسلامية في العالم العربي وتمدها بالطاقة الروحية والفكرية اللازمة لاستدامة مشاريعها المتعثرة والمظلومة في بيئة معادية ومحيط مكبل بأغلال الاستبداد والقهر والتخلف. من هنا وُجد دائماً من يدعو إلى قتله، من الذين «لا يفرقون البتة بين عبقرية الرؤية والتفاعل العميق العميق، مع النص القرآني والهرطقة ! ».
كان المرجع الديني الذي وقف سداً منيعاً بوجه «الذين يحاولون تحويلنا إلى حطام أيديولوجي»، وضد «الذين يُتقنون تعذيب النصوص»، واشتغل على إحياء ثقافة الحوار واجتراح الأسئلة الصعبة، وكان يرى أن الانفتاح على الآخر هو شرط وجودي لمعرفة الذات، وفي ذلك سكب الكثير من الحبر في العديد من الكتب، وقال كلاماً طويلاً طويلاً من على أعواد المنابر انتصاراً للأسئلة الجريئة والطرح الفكري الرصين والشجاع، متحرّراً من وطأة العُرف السائد في أوساط المرجعية و»براني» الآيات العظام.
عمل الكثيرون من داخل «البيت» وخارجه على توجيه حملات تشويه لمواقفه وأحاديثه، وكان المستهدف فيها فضل الله الظاهرة والنهج والخطاب، حسداً وبغضاً وانزعاجاً وضيقاً، وكان يتلقى كل تلك الضربات بود منقطع النظير وقلب كنت تجد فيه كل الناس.
لقد اختصر السيد المسافات الطويلة والمعقدة حين أسس لفكر إسلامي ملتزم بالإنسان، وعبّد الطريق لفهم جوهر الحقيقة الدينية ولسان الحال يقول «أيها الناس… الإسلام عقل».
الثلثاء 08 يوليو 2014م
وصلة المقال في الصحيفة
http://www.alwasatnews.com/4322/news/read/902174/1.html