الأستاذ علي المؤمن في حوار حول تاريخ الحركة الاسلامية

خلال 400 سنة خرج من العائلة الغريفية اكثر من عشرة مراجع تقليد واكثر من 100 مجتهد !!
أبناء العائلة الغريفية موزعون على أربعة بلدان هي البحرين والعراق وايران والكويت
عدد الذين قتلهم نظام صدام حسين من الغريفيين خلال 23 عاما تجاوز 132 شخصا !!

سيد علي المؤمن (الغريفي)

حاوره : وسام السبع

عاملان أساسيان يؤكدان على أهمية الحديث مع الباحث في الفكر الاسلامي علي المؤمن ضمن سياقات الحديث عن قصة الاسلام الحركي في البحرين، العامل الاول ذاتي والآخر موضوعي.
ويتمثل العامل الذاتي في أن المؤمن يتحدر من عائلة علمية عريقة يمتد عمرها نحو 400 سنة، وقد خرج من ابناء هذه العائلة اكثر من عشرة مراجع تقليد واكثر من 100 مجتهد ومئات المحدثين والمحققين وعلماء الدين والكتاب والخطباء والشعراء والاساتذة الجامعيين، فضلا عن عدد من الزعامات الدينية والسياسية والوزراء ورجال الدولة والقادة العسكريين ورجال الاعمال، وهم موزعون على أربعة بلدان اساسية احتضنت فروع الاسرة ، وهي البحرين والعراق وايران والكويت، ونظراً للدور التاريخي الكبير لابناء هذه العائلة على مجرى الاحداث في البحرين عبر حقب تاريخية متباعدة.
أما المبرر الموضوعي فيكمن في أهمية شهادة المؤمن بصفته صاحب أحد أهم المشاريع التوثيقية للتاريخ السياسي والاجتماعي للعراق الحديث من خلال ثلاثيته (سنوات الجمر) و(سنوات الحصاد) ثم (سنوات الرماد)، وهو مشروع تتبع وسجل بأمانة أكاديمية رصينة مسيرة الحركة الاسلامية في العراق، وتأثيرات (المركز) العراقي في توليد الوعي الحركي على (الآطراف) وامتداد الحركة الاسلامية في بعدها المذهبي الشيعي على المستوى التنظيمي.
الباحث علي المؤمن من مواليد النجف الأشرف (العراق) عام 1964، من أسرة دينية هي فرع من أسرة (الغريفي) المنتشرة في العراق وإيران والكويت إضافة إلى موطنها الأصلي البحرين. وهو حاصل على الماجستير في علم الاجتماع السياسي ويحضر للدكتوراه في القانون الدستوري ، فضلا عن دراسته العلوم الاسلامیة فی الحوزة العلمیة . بدء بممارسة الكتابة والصحافة في عام 1981 و عمل رئيساً لتحرير عدد من الدوريات الثقافية والفكرية، مثل مجلة التوحيد (ابتداءً من عام 1991)، سلسة كتاب التوحيد (1993)، مجلة الكوثر (1993). شغل منصب مدير مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي (1994)، و يعمل حالياً مديرا للمركز الإسلامي للدراسات المستقبلية (منذ 1999) ورئيساً لتحرير اصداراته كمجلة المستقبلية ومجلة اتجاهات مستقبلية. شغل في عدد من البلدان مواقع إدارية واستشارية ودبلوماسية واشترك في أكثر من (70) مؤتمر وندوة ونشاط ثقافي وفكري في حوالي (14) دولة عربية واجنبية. له مساهمات بحثية في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر والشأنين العراقي والإيراني والدراسات المستقبلية، تمثلت في اكثر من (250) دراسة ومقال و(14) كتاباً، منها: المسألة الطائفية في الاسلام (1994) النظام العالمي الجديد(1994)، سنوات الجمر.. مسيرة الحركة الاسلامية في العراق (1993)، الاسلام والتجديد.. رؤى في الفكر الاسلامي المعاصر(2000)، الغزو الطائفي في مواجهة المشروع الحضاري الاسلامي (2003)، الفقة والسياسة، تطور الفقه السياسي الاسلامي (2004)، النظام السياسي الاسلامي الحديث واشكالية الاقتباس (2004). فالى نص الحوار .

– أرى من المهم، في البداية، أن نبدأ معك بالحديث عن صلة النسب التي تربطكم بالعائلة الغريفية ذات العمق التاريخي الضارب في العراقة والعلم، ثم كيف وما هي العوامل التي دفعت رجال العائلة الى الهجرة من البحرين قبل عقود ؟

الاصول البحرينية لاسرتنا في الواقع موضع فخر لنا، فبرغم مرور عقود طويلة على هجرة الاجداد الا ان البحرين لاتزال تعيش في وجداننا ، ونحن نربي اولادنا على هذه المشاعر ، مما يجعلنا نتوقف عند كل ماله علاقة بالبحرين ، فضلا عن متابعة اخبار اسرتنا الغريفية في البحرين ، ولدينا علاقات و تواصل مع بعض ابناء الاسرة من ابناء عمومتنا. ولا شك ان ماقدمته هذه الاسرة التي تنتسب الى جدها الاعلى الفقيه السيد حسين الغريفي ( ت عام 1001 هـ ) هو مفخرة لكل اتباع اهل البيت في العالم ، وليس للبحرين او لنا فقط ، بالحجم الذي يجعلها متفردة على هذا الصعيد . يكفي ان نذكر انه خلال 400 سنة وهو عمر الاسرة ، خرج من ابنائها اكثر من عشرة مراجع تقليد واكثر من 100 مجتهد ومئات المحدثين والمحققين وعلماء الدين والكتاب والخطباء والشعراء والاساتذة الجامعيين، فضلا عن عدد من الزعامات الدينية والسياسية والوزراء ورجال الدولة والقادة العسكريين ورجال الاعمال، وهم موزعون على اربعة بلدان اساسية احتضنت فروع الاسرة ، وهي البحرين والعراق وايران والكويت . وقد يكون مدهشا ان نكشف بان عدد الذين قتلهم نظام صدام حسين من الغريفيين خلال 23 عاما فقط ، اي من 1980 وحتى 2003 تجاوز مائة واثنين وثلاثين شخصا( 132 ) وهم الذين عرفت اسماؤهم حتى الان .
ولعل من اهم مايميز الاسرة الغريفية هو كثرة الترحال والهجرات ، فضلا عن اتخاذ فروعها القابا واسماء متنوعة كثيرة قد يزيد عددها الان على عشرين لقبا ، الامر جعل بعض ابنائها يجهل ان هذه الاسرة او تلك هي فروع من الدوحة الغريفية ، مما تسبب في قطيعة بين بعض هذه الفروع ، ولكن بالطبع هناك في النجف الاشرف وبغداد وغيرهما من يضبط انساب الغريفيين ويتواصل مع الفروع ويربطها ببعضها.
و لهجرة فرعنا الى العراق قصة معروفة دونها المؤرخون ، فجدنا العلامة السيد عبد الله البلادي ( حفيد السيد حسين الغريفي ) كان فقيه البحرين وسيدها ، ونتيجة الاحداث التي المت بالبحرين في زمان زعامته ، فقد اضطر بعد فترة من الصمود بوجه الاحداث ، الى الهجرة مع اسرته الى مدينة بهبهان في جنوب ايران ، وبقي اولاده واحفاده فترات متفاوتة في بهبهان ، ثم اخذ الكثير منهم يعود الى البحرين او يهاجر الى العراق وغيرها ، وكان احد احفاد السيد البلادي الذين هاجروا الى النجف الاشرف هو جدنا العلامة السيد عبد الله المؤمن الذي حمل هذا اللقب في النجف الاشرف اثر حادثة معروفة كتب عنها من ترجم للسيد، وكانت هجرته الى النجف الاشرف في حدود العام 1760 الميلادي ، اي قبل اكثر من 240 عاما، هو عمر اسرة المؤمن في العراق ، ولكن ظلت صلات الرحم قائمة بينهم وبين ابناء عمومتهم في البحرين وغيرها .
وهناك فروع اخرى من آل الغريفي هاجرت ايضا من البحرين الى العراق في فترات اخرى ، بعضها يعود بنسبه الى جدنا السيد عبد الله البلادي الغريفي والاخر الى ابن عمه الشهيد السيد احمد المقدس الغريفي المعروف في العراق بالحمزة الشرقي ، وبالتالي فجميع انساب الاسرة الغريفية في كل البلدان تعود الى هذين السيدين الجليلين ( البلادي والحمزة الشرقي ) .

– كتبت(سنوات الجمر) الذي يؤرخ لمسيرة الحركة الاسلامية في العراق من العام 1957 حتى العام 1986 و امتنعت عن ذكر كثير من الحقائق والرؤى والتحليلات في الطبعة الاولى منه، وهو السبب الذي يدفعك لتأجيل صدور الجزء الثاني من كتابك (سنوات الرماد) ويتناول الفترة التي تلي عام 1986 ما هي باعتقادك الاسباب التي تجعل من الباحث في تاريخ الحركة الاسلامية بشكل عام يتهيب طرح مشاريعه التوثيقية ؟

لقد بدأت بتأليف الكتاب عام (1984) وانتهيت منه عام (1989) وصدر عام 1993 ، كنت خلالها اجري عليه تعديلات واضافات باستمرار. وكانت هذه السنوات سنوات صراع شامل بين الحركة الاسلامية العراقية ونظام صدام، وكان لهذا الوضع انعكاساته على الارض في اغلب البلدان العربية التي فيه امتدادات للحركة. ومن هنا كانت الكوابح الشرعية والاخلاقية والانسانية تمنعني من اعطاء معلومات مجانية للنظام وغيره، فالامانة على اسرار الناس أهم بكثير من الأمانة العلمية او السبق المعلوماتي. من جانب آخر كان الوضع الداخلي للساحة الاسلامية العراقية ملتهبا هو الآخر، سواء على مستوى التصدعات والخلافات والانشقاقات ، أو على مستوى ضعف افق الساحة الاسلامية وعدم قدرتها على تحمل أي تقويم موضوعي أو نقد أو حقائق قد يعتبر بعضهم انها تستغل ضده. وكان هذا الأمر ثقافة عامة لا يفلت منها حتى الانسان العادي الذي لديه مجرد ميول لشخصية أو تيار.
وقد أشرت في مقابلات صحفية سابقة الى ان كما هائلا من الحقائق والارقام والتحليلات تجمع لديّ خلال فترة الاعداد للكاتب، ربما تتجاوز الخمسة آلاف صفحة، بضمنها ما يتعلق بامتدادات الحركة الاسلامية العراقية في البلدان الأخرى ، ولا سيما الخليجية ولبنان وافغانستان. وكان مفترضا للكتاب ان لا تقل عدد صفحاته عن (1000 ) صفحة ، ولكن الأسباب السابقة حالت دون نشر كثير من هذه الحقائق، وما تكوّن لدي من تحليلات حيالها. وانا هنا لااتحدث عن مجرد كتاب ، بل عن طبيعة الواقع السياسي والاجتماعي الذي كانت تعيشه الساحه . وللأسف فان الكتابات التي صدرت خلال الفترة المذكورة وحتى عام 2002، كانت تعبر عن اللغة السائدة آنذاك، وهي لغة تتميز بانحيازها إلى خصوصيات الذات والميول الشخصية غالباً. وقد اشرت الى بعض الحقائق في هذا المجال في مقدمة الطبعة الثالثة . واعتقد أن الظروف الموضوعية قد تغيرت الآن إلى حد كبير، ولعلها تسمح بالتفكير بصوت عال وهو ما دفعني إلى إضافة اكثرمن مئتي صفحة إلى الطبعة الثالثة من الكتاب، وهي تحتوي على عشرات المعلومات والآراء الجديدة. كما اني فكرت باكمال المشروع في المستقبل القريب.
والحقيقة ان الهدف العلمي للمشروع لا ينحصر بموضوعة الحركة الأسلامية العراقية، بل يتعداه تحديداً إلى تاريخ العراق السياسي الحديث، فهو يدخل في اطار مشاريع اعادة كتابة تاريخ العراق السياسي الحديث، هذا التاريخ الذي كتب غالباً باقلام رجالات السلطة، فهو التاريخ الرسمي اذن ، شأنه شأن معظم كتب تاريخنا الاسلامي التي ارخت للحكام، ولم تؤرخ للمحكومين إلاّ من وجهة نظر الحكام.

– تجربتك التوثيقية في (سنوات الجمر) منحت المتلقي قراءة موضوعية مختلفة عمادها النقد والتقويم والنظرة الفاحصة لمسارات الحركة الاسلامية في العراق .. كيف ومتى بدأ اهتمامك بتوثيق تاريخ الحركة الإسلامية في العراق ؟

يعود اهتمامي بموضوع الكتابة عن الحركة الاسلامية العراقية إلى عام 1981، أي منذ بدايات احترافي العمل الصحافي والبحثي. وكانت تشدني إلى الموضوع عدّة عوامل، أهمها أن الحركة الاسلامية العراقية تتعرض لحرب اعلامية كبيرة، هي استمرار للحرب التاريخية التي بدأت منذ أول صفحة تاريخ كتبت بعد انهيار الخلافة الراشدة. والحرب الإعلامية الجديدة كان يقودها النظام العراقي وتدعمه كثير من وسائل إعلام المنطقة، كما تساهم معظم وسائل الإعلامية العالمية في الجهد الحربي الإعلامي هذا من خلال التعتيم أو نشر المعلومات والتحليلات الخاطئة. ومن جهة أخرى كانت الحركة الإسلامية العراقية تعيش تحت وطأة هذا الواقع الاعلامي الضاغط، وكانت من جانبها تفتقد إلى روح المبادرة، لأسباب كثير منها خارج عن إدارتها، فكانت ممارستها الإعلامية غالباً صرخة في وادي، لا تصل إلى أحد أو لا يريد أن يسمعها أحد. وكان ذلك وضعاً قاتلاً. وحيال ذلك وجدت نفسي مشدوداً إلى الكتابة عن الحركة الإسلامية، لاسباب وجدانية واخرى موضوعية ؛ فبدأت بكتابة عدد من المقالات في مجلات وصحف عربية كانت تصدر في بريطانيا والسويد ابتداءً من عام 1982، فضلاً عن صحافة المعارضة العراقية.
وكما أشرت في معرض الاجابة على السؤال السابق، فان الهدف هو الكتابة عن تاريخ العراق السياسي الحديث وحركته الاسلامية في اطار منهج علمي ولغة موضوعية، تحاول قدر الامكان الابتعاد عن العقد التي تعيشها الساحة، سواء على مستوى السلطة او ساحة الحركة الاسلامية. ومن هنا كنت متأنياً كثيراً في تناول المعلومات ودراسة الحقائق وتكوين الراي ؛ الامر الذي اضطرني الى اعادة كتابة ” سنوات الجمر” ثلاث مرات. واضافة إلى سنوات الجمر، فقد صدر لي كتابين آخرين وعدد من الدراسات التي تدخل في الاطار نفسه.
ولا يفوتني أن أؤكد بأن كتاباتي عن الحركة الإسلامية العراقية وعن العراق هي غالباً موجهة لغير الإسلاميين العراقيين، أي انني لا اكتب عادة لأبناء الساحة، بل أحاول قدر الامكان أن أقدم فهماً للاسلاميين غير العراقيين والعراقيين غير الإسلاميين حول الموضوع ، وكذلك للباحثين العارفين بالعربية خارج الفضاء العربي.
ولا أحد حرجاً أن أقول بأنني نجحت الى حد ما في هذا المجال وفي أهدافي البحثية حول العراق. وهو مايمكن الوقوف عليه من خلال ردود الفعل علي سنوات الجمر ونتاجاتي الاخرى . واحتفظ الآن بكثير من الدراسات والمقالات والكتب التي تناولت كتاب سنوات الجمر، بينها أكثر من خمسين مقالاً خصص لقراءة الكتاب في عشرات الدوريات العربية والاجنبية. كما أن عدداً من رسائل الماجستير والدكتوراه اعتمد سنوات الجمرة مصدراً أساسياً، فضلاً عن صدور كتابين في لندن، أحدهما وثق لسنوات الجمر والأخر فند رواياته كما سماها. وظل الكتاب منذ عام 1993 (سنة صدور الطبعة الأولى) وحتى الآن مصدراً لكل ما كتب حول الموضوع باللغات العربية والفارسية والأنجليزية. واحتفظ بعشرات النماذج بهذا الشأن. الأهم من كل ذلك أن (سنوات الجمر) أصبح مصطلحاً سياسياً وثقافة صحافية في العراق.

كيف تنظر الى المشاريع التوثيقية والبحثية الأخرى التي تزامنت – الى حد ما – مع جهدكم في ) سنوات الجمر( ودراساتكم الاخرى عن العراق مثل جهود صلاح الخرسان وعادل رؤوف، وقبل ذلك عبدالرحيم الرهيمي وحنا بطاطو و على الوردي؟

– بالطبع كتابات المفكر علي الوردي والباحث حنا بطاطو كتبت في اجواء مختلفة عن اجوائنا، لأنهما ليسا اسلاميين قياساً بالأسماء الأخرى. حنا بطاطو ظلت أهدافه أكاديمية وعلمية، وكتاباته في عرضها وتحليلها اقرب الى المنهج الوصفي. أما الدكتور علي الوردي فبالرغم من أنه كان يعتمد علم الاجتماع مدخلاً واطاراً ، ويحاول أن يغلٌب شخصية الأكاديمي في كتاباته، إلاّ أنه كان يحمل هماً تغييراً؛ فيدخل في عمق مظاهر المجتمع العراقي ويحفر في مشاكله، ليدعو لمعالجتها وتخليص الواقع منها .
بالنسبة إلى الباحث الصديق عبد الحليم الرهيمي فلاادري أن كانت لدية نتاجات عن الحركة الاسلامية العراقية غير رسالته الماجستير التي أرخت للفترة حتى عام 1924 على ما أتذكر، وهي من ناحية كونها رسالة علمية والفترة الزمنية التي اختارتها ومعالجتها للموضوع قريبة من دراسة الدكتورعبد الله النفيسي. ولكن الفرق ان النفيسي باحث مراقب و الرهيمي باحث لصيق بالحدث. اما الصديقين صلاح الخرسان وعادل رؤوف فهما ابني المحنة وابني الحركة الاسلامية، وكتاباتهما تمثل صورة من الداخل وتنطلق من التجربة الذاتية، ولكن هناك فرق كبير في المنهج بين كتابات صلاح الخرسان وعادل رؤوف؛ فالأول يعتمد التوثيق ، ويقدم للقارئ معلومات تفصيلية مركّزة مليئه بالاسماء والارقام والتواريخ ، باسلوب محايد وغير انتقائي، كما أنه يبتعد قدر الأمكان عن التحليل والرأي الشخصي، وإن تكوّن لديه تحليل فهو استنتاج مستقى من المعلومات نفسها. ومن هنا تعتبر كتاباته جهودا توثيقية اكثر من كونها دراسات . أما كتابات عادل رؤوف فإنها تمثل منهجية مغايرة تماماً. ولكي نكون منصفين، فإن هناك نتاجات جيدة ومهمة في هذا المجال صدرت لباحثين آخرين، ولكنها لم تحظ بالاهتمام المطلوب.

– في كتابك (سنوات الجمر) ذكرت في سياق كلامك عن حملة الاعدامات التي طالت عناصر حزب الدعوة الاسلامية فيما عرف بـ “قبضة الهدى” عام 1974أن الوسيلة الاعلامية الوحيدة التي أشارت الى هذا الحدث هي مجلة المواقف البحرينية وهو ما دفع بالمخابرات العراقية لحكومة صدام العابثة في الخليج باغتيال رئيس تحرير مجلة المواقف عبدالله المدني “رئيس البرلمان البحريني” .. وفي هذه الكلام اشتباهان يمكن أن يسجلا : فبحسب الاعترافات المسجلة في المحكمة – والمنشورة في الصحف البحرينية في عام 76 على لسان الجناة في قضية اغتيال المدني هم أشخاص بحرينيون منتمين إلى تنظيم يساري معروف؛ ثانياً أن عبدالله المدني هو أمين سر المجلس الوطني وليس رئيساً له .. إلى أي مدى هل يمكن الحديث عن ثغرات تاريخية شبيهة استوطنت ثنايا الكتاب ؟

بالطبع أنا لا أدعي أن كل ما جاء في الـ 720 صفحة من سنوات الجمر ونتاجاتي الاخرى هو صحيح مائة بالمائة؛ لان كل صفحة تحتوي على كم غير قليل من المعلومات والتحليلات والاستنتاجات. ولكني ظللت خلال فترة الاعداد أبذل جهوداً مضنية للتأكد من المعلومات، لكي أبني تحليلاتي على مقدمات صحيحة. وبعد صدور الطبعة الأولى وردتني تصويبات من أشخاص وجهات مختلفة. وقد اعتمدت معظمها في الطبعة الثالثة.

– كيف ترى دور “العراق” في توليد الوعي الحركي الاسلامي لدى شعوب دول الخليج بلحاظ تأثير الحواضر العلمية في النجف وكربلاء، وبلحاظ وجود التنظيمات الاسلامية الام فيها ؟

اسمح لي هنا أن أسمي الأسماء بمسمياتها، لأنني هنا أتحدث بلغة البحث العلمي . العراق بالنسبة للاسلاميين الشيعة يشبه مصر بالنسبة للأسلاميين السنة، ولا يقتصر ذلك على الشيعة والسنة العرب، بل يتعداه لغيرهم أيضاً. فمصر من خلال الأزهر وعلمائه ظلت مصدر الهام ديني وعلمي للسنة خارج مصر، ومن خلال جماعة الأخوان المسلمين ظلت مصدر الهام حركي. والنجف الأشرف هو أزهر الشيعة من الناحية العلمية، ويزيد علية من الناحيتين الاجتماعية والدينية أن مرجعيته ذات تأثير فريد في الواقع الشيعي لا يرقى إليه تأثير الأزهر في السنة. أما حزب الدعوة الإسلامية عند الشيعة فهو يشبه جماعة الأخوان المسلمين عند السنة. وكما أن الحركة الإسلامية السنية انتشرت خارج مصر ممثلة بامتدادات جماعة الأخوان، فإن الحركة الإسلامية الشيعية ولدت في البلدان الأخرى من خلال فروع حزب الدعوة. ولا بد أن أشير هنا إلى فارق أساسي بين الحركة الإسلامية الشيعية في العراق وشقيقتها السنية العراقية ايضا . فالحركة الإسلامية السنية في العراق لم تكن عراقية المصدر والمنشأ، بل هي فروع لجماعة الأخوان المصرية أو حزب التحرير الفلسطيني – الاردني، ولم يكن للإسلاميين السنة العراقيين تأثير حركي خارج العراق. أما الحركة الإسلامية الشيعية في العراق فعلى العكس من ذلك، أي أنها عراقية بالكامل، ولدت في حدود العراق الجغرافية وعلى يد شخصيات عراقية أو عاشت في العراق، ومثلت الواقع العراقي في أبعاده الفكرية والسياسية والتنظيمية، ثم امتدت إلى البلدات الأخرى، أي أن الوجودات الحركية الإسلامية الشيعية في هذه البلدان غالباً هي امتدادات للحركة الإسلامية العراقية. وهذا الأمر ظل قائماً حتى تأسست الجمهورية الإسلامية في إيران؛ حيناتغيرت المعادلة إلى حد ما فكان من الطبيعي بعد عام 1979 أن يتعاظم دور قم وتأثير الجمهورية الإسلامية في الواقع الشيعي في الخارج، ويتضاءل دور الحركة الإسلامية العراقية وامتداداتها، إلى الحد الذي اهتز فيه التنظيم العالمي لحزب الدعوة وتعرض الى خسائر كبيرة، كان بعضها قاتلا، ولا سيما بعد حل أقاليم حزب الدعوة في لبنان عام 1982 والكويت 1983 والبحرين1984، وتبعتهما أقاليم ومناطق أخرى ؛ ولذلك أسباب كثيرة ومتشعبة. مع الأخذ بنظر الأعتبار أن تنظيمات حزب الدعوة في هذه البلدان كانت كبيرة ومؤثرة ، و مادتها أبناء هذه البلدان أنفسهم. وكانت تنظيمياً تتبع القيادة العامة للحزب، وفكرياً جزءاً من مدرسة السيد محمد باقر الصدر، ومرجعياً يعود أفرادها في التقليد إلى مرجعيات النجف الأشرف غالبا، وفي مقدمتها السيد الخوئي والسيد الصدر.

وهناك جماعات أخرى نشأت في البلدان الخليجية، تمثل امتدادات لجماعات ومرجعيات عراقية أيضاً، أهمها الجماعات المرتبطة بمرجعية السيد محمد الشيرازي ، وهي مرجعية توصف بأنها كربلائية ، وقد كان لهجرة السيد الشيرازي من العراق وإقامته في الكويت دوراً أساسياً في نشوء هذه الجماعات وتقويتها. فيما كانت تتبع تنظيمياً حركة الرساليين الطلائع أو منظمة العمل الأسلامي (فيما بعد).
بالطبع يضاف موضوع تنظيمات حزب الدعوة والجماعات الاخرى إلى التأثير العام الكبير لوكلاء وممثلي مرجعية النجف الأشرف وخريجي الحوزة العلمية النجفية العائدين إلى بلدانهم.

– ماهو نصيب البحرين من عمق التأثر بمركزية العراق في هذا الاطار ؟
دون شك البحرين مثلت قاعدة اساسية لفكر الحركة الإسلامية العراقية وامتدادتها التنظيمية، ليس على مستوى المنطقة الخليجية فحسب، بل البلدان العربية الأخرى واوربا، وهي بذلك تشبه لبنان في اهميتها للحركة الإسلامية العراقية في عقدي الستينات والسبعينات. طبعاً تأثير النجف الأشرف في البحرين هو تأثير قديم جداً، إذ أن معظم علماء البحرين درسوا في النجف الأشرف، وكان الأبرز منهم وكلاء لمرجعية النجف الأشرف. ولكن على المستوى الحركي، فإن الحركة الإسلامية البحرينية (الشيعية طبعاً) هي امتداد للحركة الإسلامية العراقية، وأقصد تحديداً حزب الدعوة الذي دخلت تنظيماته البحرين في اواخر الستينات من خلال علماء الدين البحرينيين الذين درسوا في النجف الأشرف. وبالنظر لحجمه وقوته، فقد ارتقى تنظيم الحزب في البحرين إلى مستوى اقليم اسوة بأقليم العراق وأقليم الكويت وأقليم لبنان وغيرها. وكانت الشخصيات التي تقود الحزب في البحرين علماء دين معروفين ومثقفين. والحديث عن الأسماء والتواريخ والوقائع في هذا المجال يطول. وربما سأتطرق إلى هذا الموضوع وكذلك باقي تنظيمات الحزب في البلدان الأخرى في كتاب (سنوات الرماد) . أما التيار المرتبط بمرجعية السيد محمد الشيرازي فهو تيار ينتمي أيضاً إلى مركزية العراق، لأن مرجعية السيد الشيرازي هي مرجعية عراقية. وقد ولد هذا التيار مع دخول السيد هادي المدرسي البحرين وأقامته فيه في فترة السبعينات.
ومن الطبيعي أن تكون الخلافات التي تدور على قاعدة التنافس بين ثلاثة تيارات رئيسية في البحرين : تيار علماء الدين التقليديين، تيار حزب الدعوة وتيار السيد الشيرازي، هي خلافات تمثل انعكاساً لما كان يجري في العراق في عقد السبعينات، ثم ماكان يجري بين العراقيين في إيران في عقد الثمانينات ، ولاسيما بعد بروز تيار رابع في هذه البلدان ولد قويا هو تيار خط الامام.

– هذا كلام يجنح الى العمومية .. هل هناك تفصيلات أكثر عن هذه الامتدادات التنظيمية ؟
لا أخفيك، انني امتلك معلومات ووجهات نظر حول امتدادات الحركة الاسلامية الشيعية العراقية في المنطقة الخليجية ولبنان وافغانستان وباكستان، ولاسيما البحرين، ولكن لاتزال هناك حساسيات شديدة بشان الحديث عنها ، خاصة ان بعض الشخصيات باتت تشعر بالحرج من ارتباطاتها التنظيمية السابقة، فضلا عن ان قسما من المعلومات والتحليلات التي يمكن الحديث عنها اصبح متداولا في الصحافة والكتب، كما انني احاول ان احتفظ بالقسم الذي لم يكشف لنشره في مشروعاتي الكتابية التي حدثتك عنها.

– متى تنوي طرح كتابك (سنوات الرماد) وهل لك أن تعطينا صورة عامه عنه ؟

(سنوات الرماد) سيكون أول مشروع أنفذه بعد الانتهاء من مناقشة اطروحتي في الدكتوراه هذا العام . وقد خططت لسنوات الرماد ان يرى النور خلال عام 2008. علماً أن معظم مادة الكتاب متوافرة. ويستوعب الكتاب خمس عشرة سنة، أي الفترة من 1987 إلى 2001، وهي تشكل مرحلة واحدة. وسيتبعه كتاب آخر عنوانه (سنوات الحصاد) ويدرس مرحلة عمرها خمس سنوات، أي من 2002إلى 2006. وبذلك يكون المشروع بأجزائه الثلاثة : سنوات الجمر و سنوات الرماد وسنوات الحصاد قد درس نصف قرن (1957 – 2006) من تاريخ العراق السياسي المعاصر وحركته الإسلامية.

– تشتغلون في مجال علم المستقبليات، وقد رأست تحرير “مجلة المسقبلية” كما تديرون المركز الاسلامي للدراسات المستقبلية .. هناك من يشكك من الاسلاميين في جدوى الاشتغال بهذا العلم، باعتبار أن الشروط الحضارية للاسلام والمسلمين لا يؤهل – كما ينبغي – أن يتحدث المسلمين من منظور ديني عن علم هو دنيوي في الصميم ويحتاج الى ادوات بحث و تحليل ومناهج أخرى تختلف عن تلك التي يستعين بها المسلمين في حديثهم عن المستقبليات .. ما رأيك ؟

على العكس تماماً، الإسلام جاء ليصرف أنظار الناس عن المناهج الخرافية في التبصر بالمستقبل، ويمنح الإنسان منهجية واقعية في استشراف المستقبل، ويدفعه نحو البناء والتقدم والنهوض الذي يحقق للإنسان هدفه في الاستخلاف وأعمار الأرض وبناء الدنيا والكدح لملاقاة الرب الرحيم (ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد) . واليوم علم المستقبليات هو رهان الغرب في السيطرة على المستقبل، بل عدّة مفكروه ومنهم ” آلفن توفلر” بأنه استراتيجة البقاء، إذ أن الغرب يعيش في المستقبل اليوم من خلال مخططاته التي تستوعب حتى الخمسين عاماً المقبلة، وأي مجتمع يفتقد التخطيط الأستراتيجي في أطار استشراف المستقبل استشرافاً علمياً ومواجهة متغيراته، فإنه مجتمع لا يريد البقاء، لأن موجات التغيير السريعة وصدماته المتلاحقه ستسحق هذا المجتمع بعجلاتها الرهيبة. وهذا التحذير المادي الديوني هو تعبير عن سنة كونية، يشير إليها الإمام علي بقوله: ” من استقبل الأمور أبصر ومن أستبدر الأمور تحيّر” . وكذلك الحديث: “العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس”.
ونحن في دراساتنا المستقبلية الإسلامية نسعى لبلورة نظرية اسلامية اسميناها المستقبلية الإسلامية (Islamic futurism) وهي تعتمد العلم والمعرفة العلمية ، ومؤاطرة بالبعد الإيماني الذي يربط حياة الإنسان الدنيوية بحياته الأخروية، ويربط العمل بالجزاء، ويربط الكدح بالثواب، ويربط اعمار الأرض بتحقيق هدف الأستخلاف. وفي هذه النظرية نعمل على استثمار المناهج والتقنيات الفنية و العلمية في الدراسات المستقبلية والتي بلورها الباحثون ومراكز البحوث في الغرب، ثم نسعى لتطويعها في خدمة النظرية الإسلامية في استشراف المستقبل ، والتي تقف على أساس السنن الإلهية أو الفلسفة الإسلامية في التاريخ وعلى أساس النصوص الإسلامية (القرآن والحديث) التي تتحدث عن نوعية المستقبل المطلوب أو المستقبل الناجز. ومن هنا نحن نسعى لبحث امكانية اكتشاف نظرية، فليس الهدف هو التشبة بالدراسات المستقبلية الغربية أو أسلمتها. وفي النتيجة ستكون ” المستقبلية الإسلامية ” هي رؤية متكاملة لعلمية النهوض والبناء والتغيير الإسلامي الشامل.
قد يرى بعض مثقفينا وباحثينا الإسلاميين أن هذه الدراسات هي نوع من الترف العلمي. ولكني أتمنى على هؤلاء أن يتعرفوا على مناهج الدراسات المستقبلة وخطورتها وأهميتها في بناء حاضرنا ومستقبلنا. ولطالما تحاورنا مع أمثال هؤلاء الأخوه، وكنت أقول لهم بأننا مهددون في حاضرنا وفي بيوتنا وأولادنا، وإذا كان حاضرنا مصادراً فكيف بمستقبلنا!، ولأننا مهددون في حاضرنا فلا خيار لدينا إلاّ ببناء مستقبلنا، وبناء المستقبل هو قرار الحاضر، فحاضرنا كان المستقبل بالنسبة لماضينا، ولكننا في الماضي لم نتخذ قرار بناء المستقبل، ومن هنا نحن نعيش حاضراً مربكاً ومصادراً ومهدداً. ونحن حين بدأنا بمشروع المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية كنّا نعتقد أن مجتمعاتنا الإسلامية تحتاج إلى جرعات عالية من الثقة بالله تعالى ووعده وعدله (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) ، وكذلك الثقة بالنفس والمعتقد والتاريخ، كما أننا بحاجة إلى صدمات وصعقات تعيد لنا توازننا، بل أننا بحاجة إلى وعي مركّز نستبدل به العقل الدفاعي التقليدي بعقل هجومي إبداعي. والعجيب أن النصوص الإسلامية سبقت جميع علماء الدراسات المستقبلية الحديثة في الحث باتجاه استشراف المستقبل والأستعداد له وبنائه. يكفي أن لدينا مأثورات مثل: (من لم يعرف لؤم الأيام لم يحترس من سطوات الدهر) وكذلك (من لم يحترز من المكائد قبل وقوعها لم ينفعه الأسف عند هجومها)، يكفي أن تجعلنا نهتم اهتماما بالغا بمناهج العلوم المستقبلية ونعتبرها مصيرية بالنسبة لنا، لأن الأستسلام للواقع والوقوف متفرجين حيال المستقبل ستؤدي إلى ألوان بشعة من التراجع والتخلف (وإن ليس للإنسان ألاّ ما سعى وإن سعيه سوف يرى).
بالطبع الحديث في هذا المجال لا يتسع له هذا اللقاء ولا لقاءات منفصلة أخرى، لأنه حديث طويل لم ننته منه منذ طرحنا فكرة الدراسات المستقبلية وتحويلها إلى مشروع عام 1999. ومن يريد الأطلاع على جزء من هذه الأحاديث والحوارات العلمية وكذلك منهجيات الدراسات المستقبلية والرؤية الإسلامية مراجعة إصدارات مركزنا، ولا سيما ما أسميناه (بيان المستقبلية الإسلامية) والافتتاحيات التي كتبتها لمجلة اتجاهات ومجلة المستقبلية.

– كيف تاسس المركز الاسلامي للدراسات المستقبلية، وما هي رسالته و أبرز نشاطاته ؟

الحقيقة أن اهتمامي بالدراسات المستقبلية بدأ في عام 1993حين أدهشتني اهميتها وكيف ان حقائقها غائبة عنا، من خلال اطلاعي على عدد من الدوريات والمؤلفات الغربية، ثم تحول هذا الاهتمام إلى مشروع قائم على الأرض تمثل في المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية . وظل المركز نشيطا منذ تأسيسه عام 1999 وحتى 2001، ثم ضعف هذا النشاط، بعد أن قطع الممولون الدعم عن المركز، وبقينا نعتمد على امكاناتنا الذاتية في اعداد وطباعة مجلة المستقبلية وغيرها من النشاطات المحدودة. المهم أننا أصدرنا خلال هذه الفترة ستة أعداد من مجلة اتجاهات مستقبلية وثلاثة أعداد من مجلة المستقبلية، وأصدرنا بعض الكراسات، واشتركنا في عدد من الندوات والمؤتمرات، كما أقمنا دورة لتأهيل باحثين في الدراسات المستقبلية ، و عملنا احصاءات بما موجود من مراكز ومؤسسات للدراسات المستقبلية في العالم، وكذلك للباحثين والمهتمين بهذا المجال في البلدان العربية والإسلامية، وتواصلنا مع كثير منهم .
ومن اهم اصداراتنا مجلة المستقبلية ، وهي متفرِّدة في الموضوعات والمنهجيات التي تطرحها ، إذ تعدّ على مستوى البلدان العربية المجلة الفكرية الوحيدة المتخصصة في الدراسات المستقبلية وقضايا الفكر الإسلامي المستقبلي. ولدينا دراسات واعداد جاهزة، ولكن التمويل يحول دون اخراجها إلى النور، كما أن التمويل يحول دون تنشيط المركز بهدف الاستمرار في اداء رسالته. وهذه الرسالة أوضحتها أهداف المركز ووسائله وخطوطه البحثية، فهو يهدف إلى نشر الوعي بالمستقبل وقضاياه في الوسط الإسلامي، وبلورة نظرية إسلامية في دراسة المستقبل، وإعداد الطاقات البحثية في هذا المجال، والمساهمة في مشاريع استشراف المستقبل الإسلامي في المجالات التنموية والسياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها . ولتحقيق هذه الأهداف يقوم المركز باعداد الدراسات التي تعالج قضايا الفكر الإسلامي المعاصر والمستقبلي، وقضايا المستقبل الإسلامي ، والتعاون مع العلماء والمفكرين والباحثين في هذا المجال، وإقامة الندوات والحلقات الدراسية، وإقامة العلاقات مع المؤسسات الإقليمية والعالمية وإقامة الدورات التدريبية للباحثين.

– لديك العديد من الكتب التي تتحدث عن الاسلام السياسي، الادارة الحكومية في الاسلام، الاسلام والتجديد، الفقه والسياسة، النظام السياسي الاسلامي .. ولعل تكوينكم الاكاديمي في علم الاجتماع السياسي الذي حصلتم على درجة الماجستير فيه ثم الدكتوراه في القانون الدستوري ، قد أسهم في فتح آفاق فكرية ومعرفية مهمهة في مجال علاقة الاسلام بالدولة والسياسة .. فكيف ترى جدلية علاقة الإسلام بالسياسة ؟.. ألا ترى معي أن التراث الفقهي الامامي على وجه الخصوص تبدو عليه مسحة الخصام مع الشأن العام وفقه الدولة، في حين انه غارق في الشأن الخاص والفردي ؟ هل ترون أن أطروحة الشيخ النائيني ثم ولاية الفقيه قادرة فعلاً على التأسيس لتجربة إسلامية رائدة تستجيب لدواعي شروط الدولة المدنية اليوم والتي تراعي : حقوق الإنسان والأقليات وتنصف المرأة وتصون الحريات الفردية والمجتمعية ؟

فهم طبيعة العلاقة بين الإسلام والسياسة يبدو مستعصياً إذا أخضعناه لمنهجيات أو رؤى علمانية، لأن العلمانية ولدت في رحم بيئة فكرية وثقافية وسياسية مختلفة تماماً عن البيئة التي ولد فيها الاسلام ونما وانتشر، فالعلمانية تبلورت نتيجة علاقة جدلية بين الفكر والواقع الاوربيين ، وكانت نظريتها افرازا لواقع مختلف يعيش اشكاليات وصراعات متراكمة لم يعرفها فكرنا وواقعنا . وحاولت بعض النخب في منطقتنا استيرادها وتمثلها والتماهي معها وفرضها على واقعنا قسراً. وهؤلاء صوّروا العلاقة بين الإسلام والسياسة على انه علاقة اشكالية وجدلية لاتختلف عن العلاقة التي يرسمها الفكر الغربي ومنهجياته بين الدين والحياة ، ففلسفة الدين ومنهجيات قراءته كما فصلها الغرب على مقاساته ومقاسات حاجاته يعتقد العلمانيون انها مشترك عام يصلح لدراسة الاسلام او المسيحية او اي دين اخر، وينسحب هذا على الشريعة الاسلامية واحكامها، كما ان معادلات ومنهجيات العلوم السياسية والقانونية والاجتماعية والانثروبولوجية التي تمثل نتاج العقل الغربي وتكونه على مدى قرون طويلة من التفاعل بين الواقع والافكار المنتجة، هي صالحة لكل زمان ومكان ومجتمع وانسان ، مسيحيا اوربيا كان اوعربيا مسلما اوكنفوشيوسيا صينيا . فتكون النتيجة ان كل مايجوز ومالايجوز للمسيحية الاوربية سينطبق على الاسلام وعقيدته وشريعته ، وكذلك كل مالايصلح ان تتدخل فيه المسيحية الاوربية وكنيستها ورجالها من سياسة واقتصاد ودولة وغيرها من المحظورات ،لايصح ان يتدخل فيه الاسلام وشرعه وعلماؤه .
أما التصور الإسلامي فهو تصور مختلف، لأن الإسلام دين كامل يستوعب كل النظم التي تقرر شكل الحياة. ومقولات السياسة والاقتصاد والثقافة والاعلام والادارة وغيرها تفرز نظما تستند إلى نظريات ومذاهب ، وتقوم عليها الدولة، وللإسلام نظرياته ومذاهبه في هذا المجال. صحيح أن هناك أختلاف بين نظريات المسلمين ومذاهبهم في هذا المجال، ولكن هذا الأختلاف لا ينفي حقيقة كون النصوص الإسلامية والسيرة والتشريع الإسلامي يمتلك القابلية على استعياب تلك المقولات.
أما موضوع العلاقة بين مدرسة الإمامة وفقه الدولة فهي علاقة رسمتها ضغوطات الواقع الذي عاشته المدرسة طيلة مئات من السنين، وهي ليست علاقة خصام، بل هي إفراز للواقع، إذ بقيت هذه المدرسة بعيدة عن السلطة ، ولم يشعر فقهاؤها بالحاجة إلى التأسيس لفقة سياسي إسلامي خاص بالمدرسة، على عكس ما فعل الماوردي وابن الفرا وغيرهما من فقهاء مدرسة الخلافة. وقد سلك فقهاء الإمامية اسلوباً خاصاً في معالجة الموضوعات الفقهية وتبويبها، فمن جانب توفقوا عن معالجة كثير من الموضوعات ذات الصلة بفقه الدولة وإدارتها ونظمها، ومن جانب آخر هناك موضوعات ذات صلة مباشرة بالفقة السياسي، إلاّ أنهم عالجوها في أبواب متفرقة، كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحسبة والخراج وولاية القضاء وغيرها. ولم يتوقف ذلك عند الموضوعات، بل انسحب على الفكر الفقهي والأصولي ونظرته الشمولية إلى الواقع. وكان ذلك أما شعوراً بعدم الحاجة كما قلنا أو للحؤول دون لفت نظر السلطات وتأليبها، الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى التركيز على الشأن الفردي في الفقه. وعلى العكس من ذلك انطلقت المدرسة السنية من الواقع السياسي القائم لبناء النظرية وتنظيم العلاقة مع الفقه، فاستنبط فقهاؤها ومتكلموها فقههم السياسي من الواقع الذي خلفته سيرة الخلفاء والملوك. وقد تماهت بعض الدول والحكومات التي كان زعماؤها ينتمون إلى مدرسة الامامة مع هذه السيرة وبنوا نظامهم على الأسس ذاتها ، وبذلك فان هذه الدول والحكومات ، كالادريسية والفاطمية والحمدانية والبويهية والصفوية وغيرها ، لاتمثل فقه مدرسة الامامة ، بل تمثل افكار وسلوكيات مؤسسيها وسلاطينها ، وإن كانوا شيعة .
طبعاً هناك كتابات تأصيلية كثيرة سبقت نظرية الشيخ النائيني، منها ماطوره الشيخ النراقي، الذي ساهم مساهمة تأسيسة في التأصيل لمبدإ ولاية الفقيه. أما اطروحة الميرزا النائيني في ” تنبيه الامة وتنزيه الملة ” فلا بد من دراستها في اطار السياق التاريخي الذي ولدت فيه، فقد كتبها استجابة لشعارات الثورة المشروطية ( الدستورية ) في إيران، أي أنه رجّح خيار الدستور ومتطلباته وآلياته على خيار الإستبداد، في ظل عدم وجود خيار آخر آنذاك، ولم يكن في معرض إنشاء معالجة فقهية للحكم الاسلامي. وقد فصلت هذا الموضوع في كتابي ” الفقه والسياسة ”
أما مبدأ ولاية الفقية، فهو أمر مختلف؛ لأنه مبدأ فقهي قديم ، وما أَصٌله الامام الخميني فقهيا تمثل بتقديم فهم اوسع واشمل للنصوص الحديثية ، فضلا عن الربط بين مقاصد الشريعة الاسلامية واحكامها واهداف تطبيقها ، نتج عنه التأصيل لصلاحية اخرى للمرجع الديني والحاكم الشرعي تتمثل في سلطة تطبيق الشريعة وتنفيذ احكامها ، وهو مايعرف بالولاية على الحكم ، ويستتبعها الزاما رئاسة الدولة الإسلامية ، في حين لم يهتم الفقهاء كثيراً في دروسهم ومدوناتهم إلى هذه الشمولية في صلاحيات الفقيه قبل الإمام الخميني، لعدم حضور موضوعها في الواقع، وكانوا غالباً يكتفون بطرح مبدإ ولاية الفقيه على الأمور الحسبية والقضاء والفتوى والحقوق الشرعية، أما الولاية على الحكم فقد بلور مبدأها الإمام الخميني، رافضاً بذلك الرأي الموروث الذي يذهب إلى حرمة إقامة الحكم الإسلامي في عصر غيبة الامام المهدي. وعلى أساس هذا المبدإ قامت التجربية الإيرانية، التي تعد في مضمونها دولة دينية تشترط في رئيس الدولة أن يكون فقيهاً وتحصر التشريع في اطار المصادر الدينية أو المقبولة دينياً ، وفي شكلها دولة مدنية تعتمد آلية الأنتخاب وتداول السلطة، وتقدِّم مفاهيم جديدة في موضوعات الحقوق والحريات. ولكن تبقى هذه الدولة في سلوكها تجربة بشرية تخضع للنقد والتقويم العلمي . وهناك معالجات موسعة في هذا المجال في كتابي “النظام السياسي الاسلامي الحديث واشكالية الاقتباس “

– حالياً، ما هي أبرز انشغالاتكم الفكرية ؟

الحقيقة لديّ في الحال الحاضر انشغالات عملية أساسية إلى جانب انشغالاتي الفكرية. فأنا وبعض الأخوه من أكثر من بلد بصدد تنفيذ مشروع حقوقي إعلامي يأخذ شكل مؤسسة مدنية دولية ، تستند الى قواعد فكرية واسعة في أبعادها، وسيتم الاعلان عنها في غضون العام الحالي.
أما انشغالاتي الفكرية، فتتلخص في تدوين اطروحتي في الدكتوراه ؛ بهدف مناقشتها هذا العام، وكان مفترضاً أن أناقشها العام الماضي. والأطروحة في الحقيقة هي عمل علمي وفكري أعتقد سيشكل إضافة نوعية وأساسية لإنتاجي عموماً، عنوانها (التقنين الدستوري للفقه السياسي الإسلامي) ، وهي في القانون الدستوري، ويتلخص هدفها العلمي في معالجة الإشكاليات المرتبطة بتحويل نظرية الفقه السياسي الإسلامي وأحكامه إلى قانون دستوري حديث ومواد دستورية ذات صياغات وضعية، وما يكتنف هذه العملية من مشاكل ذات أبعاد كلامية وفقهية وقانونية وسياسية. والحقيقة أن خبرة المسلمين في مجال تقنين الفقه السياسي الإسلامي هي خبرة محدودة وحديثة وغير تراكمية؛ لأنها تستند إلى تجربتين أو ثلاثة فقط، ولا يزيد عمرها عن مئة عام. فضلاً عن أن الكتابات العلمية باللغة العربية في مجال القانون الدستوري الإسلامي هي قليلة أيضاً. ومن هنا أتمنى أن تكون الأطروحة نافعه وجديدة في هذا المجال.
طبعاً في الوقت نفسه أحاول أن أعزز ما لدي من مواد ومصادر لكتاب (سنوات الرماد) وكتاب (سنوات الحصاد) لكي أبدأ بتدوينهما فيما بعد بإذن الله تعالى.

3 رأي حول “الأستاذ علي المؤمن في حوار حول تاريخ الحركة الاسلامية

اضافة لك

  1. السلام عليكم أستاذ وسيم
    كيف حالكم نفع الله بجهودكم
    لقد حاولت جاهدا الحصول على مجلة المستقبلية التي يشرف عليها الدكتور على المؤمن فلم أفلح

  2. مقال ممتاز وأفدت منه كثيرا
    ولكن تساعدني أستاذ وسيم في التواصل مع الدكتور علي المؤمن

    لأني أدرس الدكتوراه في مجال المستقبليات وأريد مشورته العلمية

    1. اهلا بك استاذ عبدالفتاح..
      يسرني مرورك الجميل.. لقد فقدت مع الاسف بدوري الاتصال بالدكتور المؤمن.. لكني قد اتمكن من العثور على طريقة اتصال به .. سيكون بيننا تواصل وسأخبر بأي تطور انشالله

أضف تعليق

أنشئ موقعاً أو مدونة مجانية على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑